Loading

270 دقيقة عُرس البساتين الدامي

كتب: تامر إبراهيم | فيديو: مؤمن سمير | صور: سهيل صالح.. تصميم: عبدالله أبو ضيف

قمر يداعب قلوب العاشقين على كورنيش النيل الساحر، وعلى الجهة الأخرى خبيث يبعث بليله المظلم في أرواح أطفال وشيوخ بمعهد الأورام، وبينهما خبيث آخر يسير عكس الاتجاه في طريقه ليعيث فسادًا في الأرض

المكان: المنيل أحد أعرق مناطق القاهرة الخديوية، الزمان: الحادية عشر والنصف من الأحد 4 أغسطس، حالة الطقس: حار يحبس أنفاسه للحظة جلل، الأبطال: أناس يواجهون خبيثين هما السرطان والإرهاب

في السابعة من مساء ليلة من ليالي العاصمة الحارة، همت أسرة طارق شوقي بالرحيل من شارع أحمد جلال، في منطقة البساتين متجهين إلى نادي المعلمين بالجزيرة على متن سيارتي "ميكروباص" وبعض السيارات الملاكي، في تمام الثامنة من مساء تلك الليلة، توقف نبض عجلات السيارات، وحطت الأقدام أمام بوابات نادي المعلمين بالجزيرة، من بينها قدمي عروس أسماها ابيها "نعمة" ليتذكر بها الله، ترتدي فستانًا وتبدو كبدرًا في تمامه

أسماء الله الحسنى افتتحت ليلة عرس نعمة نجلة طارق شوقي، في قاعة المؤتمرات بنادي المعلمين، الزغاريد سابقت التصفيقات في مشهد الفرح المنشود، وأحيت الأسرة العرس كليلة عمر ربما تكون أخيرة، "الكل كان فرحان وبيهيص ويرقص محدش كان قاعد حزين.. في لمة وضحكة"، تلك كانت رواية أحد المعازيم وجار أسرة طارق شوقي، حيث يرى محمد فرج أن جميع الحضور كانوا منتشين بالفرح لا شيئًا سواه

في تمام الحادية عشر بعد منتصف ليل الأحد الأول من أحاد أغسطس، دعا طارق شوقي أسرته لالتقاط صورة جماعية "عاوزين نتجمع وناخد صورة جماعية لأني مسافر واحتمال مرجعش تاني، تركت الأسرة قاعة المؤتمرات بنادي المعلمين في الجزيرة، واستقلوا سياراتهم في "زفة" لم يدروا أنه "زفة موت"، ليصلوا إلى مُحيط معهد الأورام في تمام الحادية عشر والنصف من مساء الأحد

في الحادية عشر والنصف سار الخبيث والذي يُدعى عبد الرحمن خالد، بسيارته الملاكي أمام معهد يُعد ساحة حرب في مواجهة خبيث آخر، ليتقاطع طريقه مع "ميكروباص" عُرس نعمة طارق شوقي، إذ كان يسير الخبيث عكس اتجاه الطريق والوطن والله

ثواني تُعد على أصابع اليد الواحدة، وتهتز الأرض بما يُحيط بها إثر انفجار مدوي، أشلاء تتطاير في الهواء، ونيران تحصد الأرواح حصدًا، وأسرة طارق شوقي انتهى ليلة عُرسها في تلك اللحظة، إذ باتوا ضحايا لخبيث "الإرهاب" أمام معهد خبيث "الأورام

أحد الناجين من الموت، والذي ترك حفل الخطوبة قبل أن ينتهي ذاهبًا لزيارة صديق له في معهد السكر، فاضت الدموع من عيناه، واصفًا المشهد الذي رآه عقب التفجير بثواني بـ"المرعب"، وامتزجت حروف كلماته بقطرات الحسرة من عيناه "حسبي الله ونعم الوكيل في اللي كسروا فرحتنا.. أنا معادش عندي دموع تنزل من كثرة البكاء"

"ابني مخه انفجر في حضني.. احنا الزفة السوداء والفرح الأسود"، تلك أيضًا كانت كلمات هيثم طلخان، أحد أفراد الأسرة المنكوبة، أشلاء الضحايا تناثرت على أسفلت كورنيش النيل كأوراق شجر في موسم الخريف، زجاج تطاير مُهشمًا فوق رؤوس مرضى ينازعون السرطان بجلد وقوة وألم، وعروس تركت سيارة "الزفة" وترجلت للبحث عن أسرتها أو بالأحرى ما تبقى من أسرتها

مرضى معهد الأورام افترشوا الطرق بعد إخلاء المعهد كإجراء احترازي، وأناس تجمعوا من كل صوب وحدب ربما لمشاهدة الحادث أو لإنقاذ الضحايا، عشرات يذرفون الدموع، ومثلهم يصيحون بالصراخ، وخبيثان يقفان منتصرين، فسرطان يأكل مرضاه، وإرهاب يحصد أرواح الأبرياء "كنت ببص ليهم وأهزر وهما يقولولي يا عروسة وفجأة كل ده راح"، حروف تخرج بالكاد من فم العروس "نعمة"، فأسرتها بالكامل حصدتها النيران وما تبقى منها طريح الفراش في غرف العناية المركزة أو الطوارئ لتلقي العلاج كان لطارق شوقي وصية أخيرة، ربما لم تُدركها نعمة حينما قالها: "أبويا قالي لو حصلت ليا حاجة أبقى أفرحي"، ربما كان طارق يُعاين الله بقلبه فألهمه أن يطلب صورة أخيرة مع أسرته في قاعة الأفراح، ووصية لابنته أن تفرح إن حدث له شيئًا قبل أن يموت

مرضى السرطان جلسوا خائفين على أرصفة الموت، ونعمة لم تستطيع الجلوس لحظة حيث كانت تبحث عن أسرها، "أحنا كنا بنهزر وبنضحك وفجأة كل شئ راح، نار في كل حتة وجثث مرمية على الأرض، وبدور على أبويا وأمي بين الناس، وكأن قلبي خلع من بين ضلوعي كنت عارفة إنهم جوة ونفسي بس أسلم عليهم.. وفضلوا يقولولي ماما وبابا بخير ومش فيهم، ولقيت في ناس عمالة تصرخ وبيشيلوا جثث متفحمة وأشلاء ويحطوا في الإسعاف"، مشهد قصير من رحلة بحث عروس عن والديها بين الموتى بعد سهرة سعيدة في حفل خطوبتها "روحنا المشرحة عشان أشوف بابا أو ماما ملقتهمش، عرفت جثة ماما من تسريحة شعرها.. أنا كنت لسه مسرحلها وحافظاها"، وبعد أن وجدت نعمة جثة والدها، بقيت أمامها أزمة كبرى إذ أختفى جثمان الأب الدكتور هالة زايد، وزيرة الصحة والسكان، أعلنت وجود كيسين من الأشلاء لم يستدل على هويتهم بعد، وأضافت الوزيرة أن هناك جثثًا قُذفت في مياه النيل، الأمر الذي وضع نعمة بين احتمالين، إما الأب طارق قُطع وتناثرت أشلاءه، وإما قُذف في مياه النيل "تعالي لقينا جثة باباكي في النيل في حلوان"، جملة وصلت إلى أذن نعمة ثاني أيام التفجير الإرهابي، فجثت والدها جرفتها مياه النيل حتى منطقة حلوان، ولكن الأب رغم وفاته إلا أن صوته لازال يطرق أذن ابنته "كل كلامه كنت سامعاه وقتها"

قرابة الـ20 ضحية من أسرة واحدة راحوا ضحية تفجير إرهابي لسيارته المفخخة في وجه "ميكروباص" الأسرة العائدة من حفل خطوبة الأبنة نعمة طارق شوقي، وآلاف شيعوا جثامين الضحايا في مشهد مهيب، وعشرات الرسائل المنثورة على أطراف الأحاديث تذكر محاسن موتاها.

"الوزيرة طالعة تقول 100 ألف جنيه لكل شهيد.. لا خدي انتي 500 ألف جنيه لكل واحد ورجعيه لينا"، كلمات كان مصحوبة بالدموع في عزاء الأسرة المنكوبة، فصديق أحد الضحايا لم يؤمن أن الموت انتصر على صديقه الذي طالما جمعهما الضحك فقط "استاذ محمد فرج كان محترم والناس كلها بتحبه.. العائلة دي كلها ناس في حالها وجيراننا من زمان وعمرنا ما شوفنا منهم حاجة وحشة"، تلك كانت شهادة تُلخص الكثير من الشهادات عن الأسرة المنكوبة

Report Abuse

If you feel that this video content violates the Adobe Terms of Use, you may report this content by filling out this quick form.

To report a copyright violation, please follow the DMCA section in the Terms of Use.