Loading

الشمندورة ..رواية أسست تاريخ أدبنا النوبي اعداد : صلاح فضل

الراحل محمد خليل قاسم

كلمة «الشمندورة»؛ تعني الجسم الذي يطفو على سطح الماء ويستخدم في ملاحة السفن، والرواية تنتمي جمالياً إلى تيار الرواية الاجتماعية الواقعية، إلا أن الكاتب الراحل محمد خليل قسم منح هذا الشكل التقليدي للرواية، قيمة إضافية بتجسيده روح هذا العالم، الذي لم يعد موجوداً، في محاولة أدبية لاستعادتِهِ، تأخذ القارئ إلى رحلة الآلام بين دروب قرية غارقة. فالشمندورة هي أول رواية، تتناول طرفاً من هموم «مئة ألف مصري»، اضطروا لترك ديارهم، نزولاً على رغبة حكومات ما قبل 23 تموز (يوليو) 1952، في تحويل مناطق نوبية خصبة، إلى جزء من «خزان أسوان»، بُغية توسيع الرقعة الزراعية في المحافظات المصرية. ومنذ «التنويه»؛ يلفتنا الكاتب إلى أن «الأسماء في هذه الرواية شائعة بين النوبيين، فإذا ما حدث تشابه بينها وبين أسماء أشخاص حقيقيين، فليسوا مقصودين بالمرة»، فيبدو التداخل واضحاً، بين حياة الكاتب وسيرته الذاتية من ناحية، وأحداث الرواية من ناحية أخرى. الذي لا شك فيه، هو أن محمد خليل قاسم، المولود في قرية «قته»، عاش مأساة تعرض قرية نوبية بكاملها إلى الغرق، بسبب توسعة «خزان أسوان الثانية»، وهذا ما ترويه أحداث الرواية بالضبط، باستخدام الاسم الحقيقي للقرية، «قته»، الواقعة في نطاق محافظة أسوان، في جنوب مصر.

من «بر عيد ولحظ»، و«بكر» إلى «صالح جلق»، ومن خلال المواجهة بين الفقراء؛ نساءً ورجالاً، والأفنديات والطرابيش الحمر والوجوه المستديرة، يعيش العالم الصغير لقرية على ضفاف النيل، غنياً بالعلاقات العاطفية. فأكثر الشخصيات تميزاً هن النساء، بدءاً من الأم المصابة دائماً بالإعياء، والتي كثيراً ما تسقط فاقدة الوعي، إلى «داريا سكينة» المرأة التي أجهدها الفقر وأتعبها رحيل ابنها إلى أحضان نساء القاهرة البيضاوات، إلى زوجة «جمال»، القاهرية المرفوضة، إلى «حسن المصري» الصعيدي، الذي هبط مجتمعاً مغلقاً، ليختبئ فيه من جريمة ارتكبها بذبح زوج عشيقته، لكنه يشعر في هذه القرية أنه وحيد، ويقول من أول الرواية إلى آخرها: «مصير الغريب «يردع» - يرجع - لبلده»، إلى أن يتم تهجير القرية كلها، ولا يعود الغريب إلى بلده أبداً.

لقد سجّل خليل قاسم على لسان الطفل «حامد»، الذي لم يبلغ العاشرة بعد، وصفاً مُستفيضاً للحجرات والبيوت والعادات والتقاليد والأصوات والحقول والبشر، ولمجمل الحياة اليومية لقرية نوبية تنام في حضن النهر، وكيف دخلت ضمن «توسعة الخزان الثانية» العام 1933، فأصبحت أحلام سكانها البسطاء غارقة تحت «بحر النيل»، حيث رأى المياه تزحف من بعيد لتغمرَ البيوت والأراضي الخصبة، التي عاش فيها أهالي القرية سنوات طويلة، ليقبلوا في نهاية الأمر تعويضات حكومية هزيلة ومُجحِفة، نقلتهم للإقامة في مناطق صحراوية قاحلة، اعتبرت أسوأ ما يُمكن، أن يحصل عليه مزارعون بسطاء من تعويضات. الراوي الطفل، هو ابن «الشيخ أمين»، التاجر، الذي يتعرف إلى نمط «المقايضة» الاقتصادي، المتبع في «بقالة» والده، الذي كان لايزال سائداً هناك، خلال عقد الثلاثينات من القرن العشرين.

فالأهالي غير المتعلمين - والذين لا يملكون سوى بلح النخيل وما يرسله أبناؤهم من قروش قليلة من الخارج - يسحبون ما يريدونه طوال العام، من أطعمة واحتياجات منزلية، من دكان «البقال»، ليقوم هو بتسجيل كل شيء، ويحصل على ثمنها بَلَحاً، يقوم ببيعه في ما بعد، نظير جنيهات قليلة، يشتري بها بضاعته، من جديد.

على رغم أن خليل قاسم لم يصدر سوى مجموعة قصصية واحدة بعنوان «الخالة عيشة»، إلى جوار روايته تلك، إلا أنه سرعان ما أصبح «الأب الروحي» لجيل من الأدباء النوبيين، منهم حجاج أدول الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية العام 1990 عن مجموعته القصصية المتميزة، «ليالي المسك العتيقة»، ويحيى مختار، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية العام 1992، عن مجموعته القصصية «عروس النيل»، والراحلان إدريس علي، صاحب رواية «دنقلة»، وإبراهيم فهمي، صاحب مجموعتي «القمر بوبا» و«بحر النيل».

Created By
صلاح فضل
Appreciate

Report Abuse

If you feel that this video content violates the Adobe Terms of Use, you may report this content by filling out this quick form.

To report a Copyright Violation, please follow Section 17 in the Terms of Use.