سالي رطب
ليس للعشق تسميات ولاعلامات إنه كما هو نقى وبسيط، يدفع العاشق للسعى وراء من يحب حتى لو قطع عشرات الكيلو مترات فى سبيل دقائق معدودة يلتقى به فيها، فالعشق درجات أعلاها العشق الذي يغيرنا من الداخل قبل الخارج. العشق الذي جعلهم يطوفون خلف عشقهم جوانب الدنيا طمعا في نظرة، أو لقاء من محبوبهم المقدس وفق معتقدهم، يطوفون حول مقامه ينشدون الأغاني والمديح، ويرقصون طربا على نغمات الدفوف في حضرته
العشق دفع أم رشا فى الستين من عمرها إلى النهوض فى الثامنة صباحًا من فراشها الذي لازمته أربعة أشهر بعد خضوعها لعملية جراحية صعبة بحثًا عن أسرع وسيلة مواصلات تذهب بها إلى مقام السيدة نفيسة، فقد إشتاقت للجلوس أمام شباكها وإخبارها بكل مامر بها خلال الأربعة شهور الماضية وتبرر لها لماذا غابت عنها كل هذه المدة التى فارقتها فيها راحة القلب منذ توقفت عن زيارتها
أم رشا كانت من عشاق زيارة آل البيت ولكن مقام السيدة نفيسة له مذاق خاص بالنسبة لها فكانت بركات "سيدة العلم" معها طوال حياتها فساندتها حتى أنهى أبنائها تعليمهم وتزوج ابنها وارتبطت ابنتها، حتى فى لحظات مرضها لم تتركها بركاتها فظلت تساندها حتى تحسنت صحتها وطلبتها لزيارتها
أمام مقام السيدة نفيسة وقفت العشرات من السيدات فى الجزء المخصص لهن والذي تم فصله عن الرجال بسور خشبي تم صنعه وزخرفته بالزخارف الإسلامية، سيدات جئن من كل مكان فى مصر، وأخريات من بعض الدول العربية أبرزها لبنان والعراق
الدستورعايشت مُريدات مسجدي السيدة نفيسة والسيدة زينب لمدة ثلاثة أيام، وتعرفت على حكايتهن مع مقامات آل البيت، ولماذا يحرصن على التواجد بشكل شبه يومي أمام هذه المقامات وكيف حلت بركات أصحابها على حياتهن
فى بداية الطريق الذي يطلق عليه طريق آل البيت فى حي الخليفة يقع مسجد السيدة نفيسة حفيدة الحسن بن على بن أبى طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، يقع المسجد فى نهاية شارع المقابر، وبجوار المسجد يقع المقام الذي دفنت فيه السيدة نفيسة، والتى أكدت أغلب الروايات أنه بعد وفاتها أراد زوجها أن يحملها إلى المدينة المنورة كي يدفنها بالبقيع، فعرف المصريون بذلك فهرعوا إلى الوالي عبد الله بن السري بن الحكم، واستجاروا به عند زوجها ليرده عما أراد فأبى، فجمعوا له مالا وفيرا وسألوه أن يدفنها عندهم فأبى أيضا، فباتوا منه في ألم عظيم، لكنهم عند الصباح في اليوم التالي وجدوه مستجيبا لرغبتهم، فلما سألوه عن السبب قال: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم".
فى ممر طويل يؤدى إلى المقام انتشر الباعة الجائلين الذين افترشوا مدخل المقام التى لايتعدى عرضه متر ونصف، وعرضوا بضاعتهم التى أغلبها سبح ومصاحف، وافترشت إحدى القهوات الطريق وجلس العديد من الرجال فيها يشربون" الشيشية"، وفتح أحد الأشخاص محلًا صغيرًا يتخصص فى بيع صنفين فقط من الطعام هما شوربة العدس والفول النابت.
بمجرد الاقتراب من الباب الرئيسي للمقام يتغير الوضع تمامًا فالمسئولين عن المقام إهتموا بنظافته كثيرًا فعاملات النظافة منتشرات فى كل مكان، وقسم المقام إلى 3 غرف الغرفة الأولى وضع بها مقاعد خشبيه ليجلس عليها الزوار ومسموح فى هذه المنطقة أن يتناول الزوار طعامهم خاصة أن أغلبهم يقضي يومه فى المقام، وتفصل ثلاث سلالم مرتفعه هذه الغرفة عن الغرفتين التاليتين والتى يقع بها المقام والأخري يجلس بها من يريد الصلاة أو قراءة القرآن.
بالعودة لأم رشا إحدى مريدات السيدة نفيسة تقول فى حديثها مع " الدستور"، أتردد دائما على مقام السيدة نفيسة فعندما تغلق الأبواب فى وجهى أجد نفسي أمامها فبابها الوحيد الذي لم يغلق أبدًا فى وجه عاشق،وتضيف: "لا يمر شهر إلا وأكون أمامها ولكن سابقًا عندما كنت صغيرة فى السن وكنت بصحة أفضل كنت أزورها إسبوعيا وهناك من يجلس يوميًا أمامها فهؤلاء قد وهبوا أنفسهم لخدمة زوارها"
أضافت هذه أول زيارة لى للمقام منذ أربعة أشهر لم أتعود أن أبتعد عنها كل هذه الفترة ولكننى خضعت لعملية جراحية تسببت فى رقودى فى الفراش أربعة أشهر كاملة، ولكننى لم أستطع الإبتعاد أكثر من ذلك فقد إشتقت لها وأعلم أنها إشتاقت لى ،واستطردت هى لاتقبل بأى شخص يزورها إنما تنادي على زائريها بطريقتها الخاصة حتى يقطعوا المسافات لزيارتها
وروت أم رشا لـ" الدستور" قصتها الأغرب من وجه نظرها من صاحبة المقام، وقالت كان هناك خناقات كبيرة بين ابنى وزوجته ولم أستطع التوفيق بينهم فتركت لهم المنزل ونزلت والهموم تملؤنى وقررت التوجه مباشرة إلى مقام السيدة نفيسة وبمجرد خروجى إلى الشارع مر أمامى حافلتى للنقل العام إحداهما ستوصلني لمقام السيدة زينب والأخري للحسين فقلت فى نفسي أننى سأتجه لأى منهما بدلًا من السيدة نفيسه بما أن مواصلاتهم هى الأسهل الان
وتابعت بالفعل ركبت الحافلة التى وجدتها أمامى وظلت الأفكار تجول فى خاطري حتى انتبهت وأنا فى منطقة سكنية لم أرها من قبل واتضح أننى لم أركب أى من الحافلتين اللاتين كنت أقصدهما بعد أن قررت عدم الذهاب إلى السيدة نفيسة، واستطردت نزلت من الحافلة وسألت أين أنا ووجدتنى فى منطقة تسمى "جسر السويس" لم أسمع عنها من قبل، شعرت بالخوف فاتصلت باابنى وقلت له "أنا تهت" فحاول تهدئتي وظلت معى حتى ركبت إحدى الحافلات الأخري وعدت إلى منزلى، وطوال طريق عودتى كنت أعرف أن ماحدث كان تأديبًا لى من السيدة نفيسة لأننى بعد أن نويت زيارتها تراجعت وكنت أخطط لزيارة مقام آخر لآل البيت
وعن أمنياتها التى تحققت من زيارتها المتكررة لآل البيت، قالت أم رشا تحققت لى الكثير والكثير من الأمنيات فأنا أدعو الله ببركة سيدنا الرسول وبركة صاحبة المقام ولاترد لى دعوة أبدًا، لذا فأنا حريصه على زيارتها كنوع من الشكر على الخيرات التى حلت بحياتي
وقالت أهلى يعيشون فى منطقة بورسعيد وجئنا إلى القاهرة وقت التهجير ولم أعد مع أهلى بعد ذلك وتزوجت وأكملت حياتى فى القاهرة، ومنذ 40 عامًا قضيتها هنا لم أترك زيارة آل البيت يومًا واحدًا، وفى إحدى المرات كان أخوتى فى زيارة لى وكان معهم ابنتهم عبير فى العشرين من عمرها وعندما جئنا إلى زيارة المقام رفضت عبير الدخول ووقفت عند الباب وسمعنا جميعًا من يناديها.. ادخلى يا عبير
"لاتحكم على الطريقة التى يتواصل بها الناس مع الله فلكل امرئ طريقته وصلاته الخاصة فان الله لا يأخذنا بكلماتنا بل ينظر فى أعماق قلوبنا وليست المناسك أو الطقوس هى التى تجعلنا مؤمنين بل إن كانت قلوبنا صافية أم لا" إحدى قواعد العشق التى قالها الدرويش شمس التربيزي، ونجدها مجسمة فى مريدي آل البيت، فداخل مقام السيدة نفيسة تجد المسلمين السنة والشيعة كل منهما يعبد بطريقته، وتجد من يتمسح فى الجدار الخشبي المحيط بالمقام طلبًا للبركة، ومنهم من يأتى بالورود ويضعها داخل السور الخشبي طلبًا للبركة وهناك من يضع نقودًا فى الصندوق المخصص لها أمام المقام لعلها تكون المنجية، وهناك من يأتى بالفطائر ويوزعها على الجالسين كنوع من النذر
قبل أن يؤدي مؤذن السيدة نفيسة نداء العصر تركت "ليلي" شباك المقام التى وقفت بجانبه فترات طويلة ممسكة جهازها المحمول وتقرأ منه عدة أدعية، وإتجهت للغرفة المجاورة له والتى يجلس بها العشرات من السيدات، أخرجت حجر صغير على شكل دائرة ووضعته أمامها وأدت صلاتها.
"الدستور" فى حديثها معها قالت زرت مصر 8 مرات حتى الان وأحرص فى كل مرة على زيارة مساجد آل البيت لأتبرك بهم، وجئت هذه المرة إلى مصر لإجراء عملية تجميل فى أنفى وحرصت على زيارة مقام السيدة نفيسة لأدعو أن تنجح العملية فأنا لا أقوم بأى شيء فى حياتي دون اللجوء لهم، ليلي جاءت بصحبة والدتها وأخوتها الأثنين ورغم أنه ظهر من أدائها للصلاه أنها من المسلمين الشيعة إلا أنها أكدت أنها من السعودية
جنسيات عربية كثيرة كانت حريصة على زيارة المقام خاصة لبنان والعراق، وأمام المقام تجد حرص الامهات على أصطحاب أطفالهن الصغار والتقاط بعض الصور لهم أمام المقام.
وقالت أم أيمن إحدى مريدات السيدة نفيسة، وزارة الأوقاف هى المسئولة عن فتح هذا الصندوق فكل فترة عندما نأتى للزيارة نجد المكان مغلق وقوات الأمن منتشرة فى كل مكان فنعلم أنه وقت فتح الصندوق ويتم توزيع جزء من هذه الأموال فى الحال على بعض المتواجدين من الفقراء والمساكين، وأعتقد أن باقى الاموال يتم بها تجديد المسجد والمقام
يحرص العديد من زوار مقام السيدة زينب على إرسال رسائلهم الخاصة ووضعها داخل المقام رغم وجود حاجز زجاجى يمنع ذلك، وحرصت إحدى الزائرات على وضع صورة زفافها وتحتها كتبت "اللهم بارك هذا الزواج"، مريدات السيدة زينب يحرصون على التبرك منها بأقل شئ ففى المعايشة التى قضتها "محررة الدستور" داخل المقام كانت تحرص الزائرات على وضع طعامهن أمام المقام للتبرك به ثم تناوله مرة أخري
داخل المقام تجلس سيدة فى الخمسين من عمرها ترتدي خمارا كبيرا لونه أخضر وتضع حول رأسها عصبة بيضاء رفيعة، يحرص كل الزائرين للمقام على أخذ بركاتها وطلب الدعاء منها، قالت السيدة "أم عبد الرحمن" بدأت حكايتى مع السيدة زينب منذ الصغر فكنت أزورها مع أهلى، ولكن نقطة التحول فى حياتى والتى جعلتنى من عشاقها ولا أترك مقامها طوال اليوم، كانت بعد مرضي بالسكري وطلب منى الطبيب إرتداء نظارة نظر وجئت يومها إلى المقام وكانت النظارة داخل حقيبتي ودعيت الله ببركة السيدة زينب أن يشفيني فأنا لاأريد أن أرتدي هذه النظاره، وعندما خرجت من المقام رأيت النظارة وقد كسرت داخل الحقيبه ورأت الصورة أمام واضحة تمامًا لا أحتاج أن أرتديها ومن يومها لم أفارق هذا المقام، وشهدت الكثير والكثير من المعجزات التى تتحقق أمامي
تابعت أم عبد الرحمن "من زار الأعتاب ماخاب" مقوله نعلمها جيدا فمن يأتى لزيارة السيدة زينب لاترد أبدًا، وأشارت أنا أعلم الكثير من زائرات المقام لأن أغلبهن حرصات منذ سنوات على الزيارة، وكانت إحداهن عاجزة جالسه على كرسي متحرك، وفى إحدى المرات جلست بالمقام طوال النهار تدعى، وفى اليوم التالى وجدناها قادمة على قدميها